Saturday, March 02, 2024

Article about Ahmed Shawqi

كنت أبحث في مكتبتي عن كتاب أحتاج إليه لتدقيق معلومة في الركن المخصص لشعراء الإحياء في العالم العربي, وهم الشعراء الذين حملوا راية النهضة الشعرية منذ الربع الأخير من القرن الثامن عشر إلى مطلع ثلاثينيات القرن الماضي, خصوصا سنة 1932. وهي السنة التي توفي فيها كل من أحمد شوقي (1868 - 1932) وحافظ إبراهيم (1872 - 1932) فانتهى بوفاتهما زمن الإحياء الذي تخلى عن دوره لزمن جديد من شعر الوجدان. وكعادتي, وأنا أبحث عن كتاب, أتوقف عند الكتب القديمة التي بعد العهد بيني وبينها, وأحيانا, أجد كتابا, أو مجلة مختبئة في إحدى الزوايا يغطيها الغبار, فأتناولها وأنفض عنها الغبار الذي تراكم, ويدفعني الفضول إلى تصفحها. وقد أنسى الكتاب الأصلي الذي كنت أبحث عنه, وأستغرق فيما عثرت عليه بالمصادفة. وهذا ما حدث معي هذه المرة, فبدل أن أعثر على كتاب الأمير شكيب أرسلان (1871 - 1946) عن صديقه أمير الشعراء أحمد شوقي الذي يتحدث فيه عن صداقة امتدت أربعين عاما, وجدت أحد أعداد جريدة (عكاظ) مطويا فيما يشبه الكتاب. وفردت عدد الجريدة التي كانت تصدر في حجم التابلويد, فوجدته عددا خاصا حل محل الأعداد من 129 إلى 131, وصدر يوم الجمعة 24 يونيو سنة 1927, خاصا بتكريم أمير الشعراء أحمد شوقي, وكان ثمنه عشرة مليمات بالتمام والكمال, أي (قرش صاغ مصري) لعدد تذكاري, يحمل في صفحته الأولى صورتين لشوقي بك, أولاهما وهو في الثامنة عشرة من عمره, وثانيتهما بعد أن أصبح أحمد شوقي أمير الشعراء, وحملت الصفحة الأخيرة من الجريدة صورتين أيضا, أولاهما لأحمد شوقي في منتصف العمر, وثانيتهما لأمير الشعراء ونجليه: علي وحسين بقصر الحمراء في الأندلس. ويزين بقية الصفحة أسماء أهم ما في العدد من قصائد ومقالات تربو على الأربعين كتبها أصحابها لتكريم أحمد شوقي بمناسبة تنصيبه أميرا للشعراء, وتحمل أسماء علي الجارم وأمين واصف وحافظ إبراهيم وخليل مطران وشبلي الملاط وكرد علي ومحمد صادق عنبر وشكيب أرسلان وأنيس المقدسي ومحمد عبدالمطلب وأحمد نسيم وأحمد محرم ومحمد صبري وأنطون الجميل وأحمد الكاشف ومعروف الرصافي وجبر ضومط وأحمد زكي أبو شادي. وكل ذلك بعشرة مليمات فقط! ربما اشتريت عدد عكاظ هذا من (سور الأزبكية) حينما كان هناك سور للأزبكية هو قبلة عشَّاق الكتب. وربما حصلت عليه من أحد أساتذتي الكبار في السن أيام كنت أعد أطروحتي للماجستير عن شعراء الإحياء في مصر. وكان ذلك منذ أكثر من ثلاثين سنة. وقد يكون أهداني العدد واحد من أصدقائي الأدباء عندما عرف اهتمامي بشعر أمثال شوقي وحافظ والرصافي والزهاوي في مطلع المسعى الأكاديمي, وأيا كانت المناسبة التي أتاحت لي أن أمتلك هذا العدد وأضعه في مكتبتي فهي مناسبة سعيدة. وأيا كان الذي أهداني العدد فالشكر له والتحية. وإذا كنت اشتريت العدد من (سور الأزبكية) فسقى الله أيام هذا السور الذي اقتنيت من كنوزه الكثير بقروش معدودات. وحملت عدد (عكاظ) الخاص حانيا رفيقا, فقد أخذت أوراق العدد في الاصفرار, وتمزَّقت في بعض المواضع, كما لو كان الزمن نال منها مثلما نالني, ونفضت عنها الغبار, ووضعت العدد أمامي على طاولة الكتابة وأخذت في تصفّحه, وقراءة محتوياته. وكالعادة, نسيت كل شيء آخر, واندمجت في عوالم الصفحات التي أقرأها, والتي حملتني عبر الزمن إلى شهر يونيو من سنة 1927. وقد جاء هذا الشهر عقب الاحتفالات التي أقامها أصدقاء شوقي من رجال السراي لتكريمه وتنصيبه أميرا للشعر. ويبدو أن الاحتفال كان يراد به تحقيق أكثر من هدف. أول هذه الأهداف هو ردّ الاعتبار لأحمد شوقي الذي أخذت سهام المدرسة الجديدة في الشعر تهاجمه بضراوة, وذلك منذ أن أعلن الأصدقاء الثلاثة عباس العقاد (1889 - 1964) وإبراهيم المازني (1889 - 1949) وعبدالرحمن شكري (1886 - 1958) عن تيارهم الشعري الجديد مع نهاية العقد الأول من القرن العشرين, وأخذوا في الهجوم على شوقي بوصفه - مع رفيقه حافظ إبراهيم - قطب الإحياء الشعري الكلاسيكي. وقد تكثف هذا الهجوم عندما أصدر إبراهيم المازني كتابه عن (شعر حافظ) سنة 1915, ووصل إلى ذروته مع صدور كتاب (الديوان في الأدب والنقد) الذي اشترك فيه العقاد مع المازني, وتولَّى فيه المازني الهجوم على المنفلوطي بوصفه عميد المدرسة النثرية للإحياء, وانفرد العقاد بالهجوم على أحمد شوقي الذي كان القطب الأكبر لحركة الشعر الإحيائي, يستظل بظله أمثال أحمد نسيم وأحمد محرم وأحمد الكاشف ومحمد عبدالمطلب وعلي الجارم وغيرهم من شعراء الصف الثاني أو حتى الثالث في زمن الإحياء. وقد صدر (الديوان) سنة 1921. وكان موازيا في صدوره لكتاب (الغربال) الذي نشره ميخائيل نعيمة (1889 - 1989) سنة 1923 دعما لآراء زميليه المازني والعقاد. ولذلك تتضمن مقالات (الغربال) مقالا في تحية (الديوان) والترحيب به. وكان واضحا منذ النصف الأول من العشرينيات أن مدرسة الإحياء الشعري قد أنتجت أفضل ما عندها, وأن مدرسة جديدة واعدة متمردة, أخذت تشق طريقها, وتفتح الأبواب المغلقة أمام الإبداع والتذوق. وكانت هذ المدرسة تتكون من الجناح المصري الذي ضم أمثال طه حسين ومحمد حسين هيكل ولطفي السيد من الذين أسهمت فرنسا في تعليمهم, وعباس العقاد والمازني وشكري الذين غلبت عليهم الثقافة الإنجليزية التي لم تكن قيمها الرومانسية في الأدب تختلف كثيرًا عن القيم الرومانسية الفرنسية المعادية للكلاسيكية والتقليد. أما الجناح المهجري فقد ضم أمثال ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران من الذين شنوا هجوما حادا على الشعر الإحيائي في صوره التقليدية. ومن الواضح أن المكانة التقليدية لأحمد شوقي زعيم الشعراء قد أخذت في التذبذب نتيجة الهجوم النقدي عليه من ناحية, وصعود جيل جديد سرعان ما ظهرت له امتداداته من ناحية مقابلة. ولم تفلح محاولات شوقي في استكتاب المدافعين عنه, أو دعم بعض الجرائد والمجلات الصغيرة لتأكيد مكانته. شاعر الأمير أصبح أميرا ومن هنا جاءت محاولة أصدقاء أحمد شوقي - رجل السراي القديم - لتعيد إليه الاعتبار على طريقتها, وتجعل منه أميرا للشعراء بعد أن كان (شاعر الأمير) الذي يفخر بلقبه في عهد راعيه وصديقه الخديو عباس حلمي الثاني. ويمكن أن نضيف إلى ذلك السبب الثاني وهو مسح جراح أحمد شوقي القديمة الذي أطاح به الاحتلال البريطاني بعد أن أطاح بالخديو عباس حلمي الثاني, ففرض عليه المنفى في إسبانيا (الأندلس) بعيدا عن وطنه الذي ظل يغني له إلى أن عاد في سياق النتائج الإيجابية التي أحدثتها ثورة 1919, ولكن دون المكانة والرعاية التقليدية من القصر, ولذلك حرص أحمد شوقي على أن يكون شاعر وطنه وشاعر الأمة العربية كلها, بحثا عن ولاء جديد, وهو الولاء الذي أعطى ثماره عندما قرر أصدقاؤه القدامى الاحتفال به, فتدافع الشعراء والكتَّاب العرب - المتعاطفون طبعا مع مدرسة الإحياء - للاكتتاب والإسهام. وقد انعقد الاحتفال بالفعل في القاهرة وحضرته وفود من الدول العربية المختلفة, وأقيمت احتفالات موازية في العواصم العربية تحية للشاعر الذي خاطبه زميله حافظ إبراهيم في الاحتفال الكبير الذي أقيم في دار الأوبرا بقوله: أمير القوافي قد أتيتُ مبايعا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي فغنِّ ربوع النيل واعطف بنظرة على ساكن النهرين واصدح وأبدع ولا تنس نجدا إنها منبت الهوى ومرعى المها من سارحات ورُتّع وحيِّ ذرى لبنان واجعل لتونس نصيبا من السلوى وقسِّم ووزِّع ففي الشعر حثّ الطامحين إلى العلا وفي الشعر زهد الناسك المتورِّع ففي الشعر إحياء النفوس وريّها وأنت لريِّ النفس أعذب منبع وقد ظلت القاهرة منذ أواخر أبريل سنة 1927 تموج بوفود الأقطار العربية لحضور حفلات تكريم أحمد شوقي. وقد ابتدأت الحفلة الرسمية بدار الأوبرا الملكية تحت رعاية حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول ملك مصر في يوم الجمعة 29 أبريل سنة 1927. وكان برنامجها يضم كلمات لصاحب الدولة سعد زغلول باشا وصاحب السعادة أحمد شفيق باشا والأستاذ أحمد حافظ عوض مع قصائد لكل من شبلي الملاط شاعر الأرز وخليل مطران شاعر القطرين وحافظ إبراهيم شاعر النيل. ووضع الموسيقار سامي الشواقطة مقطوعة موسيقية للمناسبة بعنوان (تحية الشعر). وتتابعت الاحتفالات ما بين تياترو حديقة الأزبكية ودار الجمعية الجغرافية وقاعة الاقتصاد السياسي ودار الموسيقى الشرقية وكازينو الجزيرة. ولم يخل الأمر من نزهة نيلية إلى القناطر الخيرية ألقيت فيها قصيدة محمد بن هاشم في الذهاب وقصيدة حليم دموس في الإياب, واستمرت الحفلات إلى السادس من مايو 1927. وخلالها نال شوقي نخلة من الذهب الخالص وجناها لؤلؤ متدلٍّ هدية من أمير البحرين, وكأسا ذهبية من الاتحاد النسائي المصري, وقلما ذهبية من النادي العربي بعدن, وعلبة فضية وداخلها إطار من الفضة حول قصيدة (قم ناج جلق) من النادي العربي في بومباي. سوق عكاظ الجديد وقد تجنب منظمو الاحتفال دعوة عدد كبير من محبّي شوقي من شعراء مصر وأدبائها لإلقاء كلمات أو قصائد. وأحسب أنه كان بسبب تقديم الوفود العربية, والتمثيل الذي لم يخل من هوى على نحو أو غيره. وقد أغضب ذلك فهيم قنديل صاحب جريدة (عكاظ) ومؤسسها, وكان من أتباع أحمد شوقي وأكثر مدافعيه حماسة في الدفاع عن مكانته والهجوم على خصومه. وزاد غضب فهيم قنديل بسبب ما جاء من اقتراح في الاحتفال الذي وصف بأنه أشبه بسوق (عكاظ) القديم حول جعل ذكرى تنصيب شوقي أميرا للشعراء حفلا للشعر كل عام وسوقا لتكريم أعلامه كما كان يحدث في سوق عكاظ القديم, ولنا أن نتخيل غضب الرجل الذي أسس جريدة (عكاظ) سنة 1920, داعيا إلى إحياء (عكاظ) القديم, وحرصا على أن يقيم في مصر (سوق عكاظ) يدور حول شاعره المفضل أحمد شوقي - أقول لنا أن نتخيل غضب الرجل الذي دعا إلى ذلك, وفعل ما فعل, فإذا بالمنظّمين يتجاهلونه, ويكرمون (عكاظ) وصاحب (عكاظ) - أي أحمد شوقي - من غير دعوته, وأضاف إلى غضبه أن الكثيرين أشاروا إلى جهود جريدته, ومدحه, وأشار إليه أحمد نسيم في قصيدته التي أعدّها للمناسبة, وذلك حين توجّه إلى أحمد شوقي بقوله: إن الذين حبوتهم تكريمهم قوم على رغم الزمان كرام أكرمت (قنديلا) فأشرق نوره والدهر داج والحياة ظلام وشملته برعاية لم ينسها ما كرّت الأيام والأعوام ورأيت فيه نابغا من حقه تحت اسمك الإجلال والإعظام أحيت (عكاظ) وهي خير صحيفة سوقا لشعر النابغين تقام وإذا صح فهمي للأبيات فهي تدل على ما كان يقوم به أحمد شوقي من دعم مادي لجريدة (عكاظ) ولصاحبها فهيم قنديل الذي جعل نفسه مدافعا عن شوقي في مواجهة خصومه. ومع ذلك لم يدع إلى الإسهام الملموس في تكريم راعيه الذي أصبح أمير الشعراء رسميا وباعتراف الوفود العربية. وكان من الطبيعي - والأمر كذلك - أن يقاطع فهيم قنديل الاحتفالات, وينتظر إلى نهايتها, ويصدر العدد التذكاري من الجريدة بدل ثلاثة أعداد لم يصدرها - في الرابع والعشرين من يونيو, أي بعد انتهاء الاحتفالات بأكثر من شهر. ويفتتح فهيم قنديل العدد بمقال تحت عنوان (سوق عكاظ) يكشف فيه عن دوره وسبقه, ويهاجم الذين نظّموا وتجاهلوه, مؤكدا أنه أول من كرَّم شوقي, وأول من هتف بقصائد شوقي, وأول من حارب حُسَّاد شوقي. وكان هذا من أول يوم ظهرت فيه (عكاظ), ومن أهم الأغراض التي أنشئت لها عكاظ فيما يقول. وكان ذلك قبل الحرب العظمى الأولى, وشوقي في خدمة مولاه, وكان في خلالها وهو في منفاه. وكان بعد الهدنة وشوقي في وطنه ومرباه. وينال فهيم بألسنة حداد شفيق باشا وحافظ عوض ومحمد علي دلاور وجرجس أنطون من الذين تصدَّروا الاحتفال, ونظّموه فأبعدوا عنه أمثال تيمور باشا, ومحمد بك المويلحي, والشيخ مصطفى عبدالرازق, وأحمد محرم وأحمد نسيم وأحمد الكاشف وغيرهم وغيرهم من الأسماء التي يعدّدها فهيم قنديل تسفيها للتنظيم الذي لم يتجاهله وحده, وإنما تجاهل الكثيرين من الذين كان يجب أن تزدان بكلماتهم وقصائدهم حفلات تنصيب شوقي. أما في إطلاق اسم (عكاظ) على هذا التكريم والتفكير في جعله احتفالا سنويا, فيعلق فهيم على ذلك بقوله إنه (إذا كان أدباء العالم العربي, وقد اجتمعوا في حفلات تكريم أحمد شوقي يريدون أن يتولوا هذه الفكرة, ويريدون أن ينظّموا هذه السوق, وأن يجعلوا منها في كل عام مؤتمرا عاما للآداب والفنون, فنحن أول من يتركها لهم, وأول من يؤيّدهم في عملهم, بشرط أن يكون الأمر فيها للأدباء والشعراء, لا لشفيق باشا, ولا لحافظ عوض, ولا لمحمد دلاور, ولا لغيرهم من المتطفّلين, الذين فضحونا بجهلهم في حفلات شوقي بك). وقد حرصت أن أنقل كلمات فهيم قنديل بنصها لكي يشعر القارئ المعاصر بمناخ الصراع الأدبي في ذلك الزمان البعيد, خصوصا حين كانت السياسة تتداخل والأدب, ويحرص أمثال فهيم قنديل على إبقاء الأمر للشعراء والأدباء القادرين على إدارة شئونهم. وأعترف أنني لست متعاطفا تماما مع فهيم قنديل في هجومه الضاري على الذين قاموا بالتنظيم. من المؤكد أنهم اضطروا لتجاهل البعض, ولكن الذين حضروا أنابوا عن غيرهم. ولولا الجهد الذي بذل ما حضرت هذه الوفود العربية وما أقيم الاحتفال على النحو الذي بدأ به في دار الأوبرا الملكية. ولاشك أن إقامة الاحتفالات تحت رعاية الملك أضفت طابعا رسميا على الاحتفال, ولكن الذين تحدثوا نثرًا ونظموا شعرا كانوا أكبر الشعراء في عصرهم من المنظور الإحيائي. وكان يمكن تدارك التقصير بإقامة محفل زائد يضم الشعراء الذين لم ينشدوا. تحية للربيع ويبدو أن فهيم قنديل أراد أن يتدارك الخطأ الذي حدث, فدعا الذين لم ينشدوا أو يتكلموا ليقولوا ما شاءوا في جريدته, تكريما لراعيها الذي أصبح أميرا للشعر. ولم يتجاهل فهيم قنديل - وما كان يستطيع - قصائد حافظ إبراهيم ومطران وأمثالهما من الشعراء الذين تصدروا الاحتفال. هكذا, أصدرت (عكاظ) يوم الجمعة الرابع والعشرين من يونيو سنة 1927 احتفالها الخاص بأحمد شوقي, مفردة صفحاتها للذين تجاهلهم أعضاء اللجنة التنظيمية ولم يسمحوا لهم بإنشاء أو إلقاء كلمة. وقد استمتعت بالقصائد والكلمات التي ضمّها العدد التذكاري, البعض لقيمته الفنية, والبعض للمعلومات التاريخية التي يشير إليها أو يتضمنها. ولم يفت فهيم قنديل ذكر قصيدة شوقي التي ألقاها بمناسبة الاحتفال. وهي القصيدة التي تبدأ بتحية الربيع, ومنه إلى تحية الشعر الذي يزهو زهره على نور الربيع, ويسمو عليه بالخلود الذي لا ينقطع, فالشعر. ملك ظِلّه على ربوة الخلـ ـد وكرسيّه على خُلجانه أمر الله بالحقيقة والحكـ ـمة فالتفّتا على صولجانه لم تثر أمة إلى الحق إلا بهدي الشعر أو خطا شيطانه ولم ينس شوقي أن يشكر الملك فؤاد الذي ظلّله برعايته, وسعد زغلول الذي تزعم الأمة, وانتقل إلى الاحتفال الذي وصفه بأنه (عكاظ) تألقت الشرق فيه من فلسطين إلى بغداد, مؤكدا الطابع القومي الذي تجسّد في شعره من قبل الاحتفال, خاتما قصيدته بقوله: كان شعري الغناء في فرح الشر ق وكان العزاء في أحزانه قد قضى الله أن يؤلّفنا الجر ح وأن نلتقي على أشجانه كلما أنّ بالعراق جريح لمس الشرق جنبه في عمانه وعلينا كما عليكم حديد تتنزّى الليوث في قضبانه نحن في الفكر بالديار سواء كلنا مشفق على أوطانه وقد تعمّد فهيم قنديل ألا يخلو العدد من مختارات من شعر شوقي, تأكيدا لمكانته الشعرية, وإشاعة لها بين القراء, وأهم من ذلك أنه نشر خبرا يتعلق بانطلاقة شوقي في التجديد الشعري, فيكتب تحت عنوان (كليوباترة) أن أمير الشعراء يضع رواية مسرحية بهذا العنوان, يلحّنها الموسيقار محمد عبدالوهاب, وقد أتم منها جزءا كبيرا, ومن بينها أبيات تنشدها كليوباترة في أحد مواقف القصة. وقد أنشدها محمد عبدالوهاب لأول مرة في حفلة أقامها شوقي في (كرمة ابن هانئ) (منزل أحمد شوقي الذي أطلق عليه اسم الشاعر العباسي أبي نواس اعتزازا به) فلاقت الأبيات استحسان الحضور واستعادوها مرارا. ومن هذه الأبيات: أنا أنطونيو وأنطونيو أنا ما لروحينا عن الحب غنى غننا في الشوق أو غنّ بنا نحن في الحب حديث بعدنا والحق أنه رغم استغراقي في كل محتويات العدد التذكاري من عكاظ, فإنني توقفت بوجه خاص عند كلمتين ألقيت كل منهما في الاحتفال. الكلمة الأولى للسيدة إحسان أحمد ألقتها في حفلة الأوبرا بالنيابة عن الاتحاد النسائي. وكان ذلك توفيقا من اللجنة التنظيمية التي لم تغفل دور المرأة المصرية التي صعدت إلى بؤرة الضوء مع ثورة 1919 التي أسهمت فيها جنبا إلى جنب الرجل. وكانت هدى شعراوي قد أعلنت عن تأسيس الاتحاد النسائي 1923, واستمر الاتحاد يمارس دوره الصاعد الذي كان تجسيدا لإنجازات المرأة المصرية وقطعها طريقا طويلا من المطالبة بحقوقها. وكان من الطبيعي أن تُدعى المرأة إلى الاحتفال سنة 1927, ويبدو أن هدى شعراوي لم تستطع الحضور لسبب أو لآخر, فأنابت عنها إحسان أحمد التي بدأت كلمتها بقولها: (باسم جمعية الاتحاد النسوي, بل باسم المرأة المصرية الناهضة نشترك في هذه الحفلة تكريمًا لأمير شعراء الشرق العربي, مدفوعات لذلك بعوامل شتى, أولها: شعورنا بوجوب تقدير النوابغ, ثانيا: عرفان الجميل لنصير تفخر المرأة بمناصرة مثله, وثالثها أن الإنسان مطبوع بفطرته إذا امتلأت نفسه بعاطفة مال إلى الإعراب عنها, والإفضاء بها إلى مشاركيه فيها). المرأة المصرية .. تصعد وقد أوضحت إحسان أحمد في كلمتها الدور الصاعد للمرأة المصرية, وكشفت عن أسباب اختيارها لإلقاء الكلمة التي قبلتها سعيدة, خصوصا عندما تذكرت رابطة الصداقة التي جمعت بين والد أحمد شوقي وجدّها الشيخ علي الليثي, مؤكدة ذلك بشعر شوقي في الشوقيات القديمة. وختمت إحسان أحمد كلمتها بقولها إنه إذا كان السواد الأعظم من عظماء الرجال لم يُعترف بعبقريتهم ويُتغنّى بفضلهم إلا بعد أن فارقوا هذا العالم, فمن دواعي فخارنا أننا قدّرنا شوقي في حياته, وإن كان حقا علينا أن يكون اعترافنا بفضله من سنوات مضت. وقد أعقب فهيم قنديل كلمة إحسان أحمد بنشيد جديد نظمه أحمد شوقي للفتاة المصرية وأجاد إنشاده الفتى المعروف عبدالوهاب في حفلة حديقة الأزبكية. وهو نشيد مطلعه: يا فتاة ارفعي العلم وانشريه على الأمم أجلسيه على السهى أو على قمة الهرم وأعدّي له يدا تجمع السيف والقلم أنت في الملك نصفه لو تخليّت لانهدم الأمر الأخير الذي لفت انتباهي هو روح التسامح الديني التي سادت الاحتفال. وهو روح التسامح الذي جمع بين المسلمين والمسيحيين واليهود, كما جمع بين الأقطار العربية, تعبيرا عن التآلف القومي الذي لا تعكّر صفوه اختلافات الأديان, ولذلك انتبهت إلى وجود كلمة الحاخام الأكبر التي ألقاها في حفلة الجمعية الجغرافية, وهي كلمة تبيّن ثقافة الحاخام التي تظهر في كلمته التي أنقل منها هذا المقطع الذي يقول: (اسمحوا لي بهذه المناسبة أن أروي لكم حادثة حصلت لي يوم كنت طالبا في السربون, حيث عرض علينا الأستاذ إميل فاجييه في مسابقة فلسفة التاريخ والآداب حل المسألة الآتية: اشرح هذه الفكرة لتين, وهي أن القرن السابع عشر يؤمن, والثامن عشر ينكر, والتاسع عشر يشك, وهذا مما يجعله مفضلا عن القرنين السابقين, ولو كان في إمكاني حينئذ التنبؤ بأنه بعد 35 سنة سيوليني جلالة الملك (فؤاد) شرف الرياسة على الطائفة الدينية بمصر, وبأني سأسعد بحضور حفلة كهذه, يتجلى فيها حماس شعب بأكمله بالنابغة العصري للشعر العربي شوقي بك, هذا الشعر الذي تنعكس فيه رغائب وآمال الشعوب العربية, لكنت أكملت فكرة (تين) من أن القرن العشرين يأمل, نعم إن الأمل الذي يحيي الأفراد, هذا الأمل نراه متجلّيًا في وجوه جميع الحاضرين في هذا الاحتفال. وإنه لمن السرور العظيم لي شخصيا وللغة العبرية التي أنوب عن أبنائها في هذا العيد المبارك أني قد تمكنت من الاشتراك في تمجيد أمير الشعراء). وهي كلمة لابد من تسجيلها وثيقة دالة على ظواهر عدة, أولاها التسامح الذي كانت تعمر به الثقافة العربية بوجه عام, ومصر بوجه خاص, وهو التسامح الذي يجعلها لا تنسى رئيس الطائفة اليهودية في الاحتفال بأعظم شعرائها المعاصرين, وثانيتها الأمان والسلام الذي عاش فيه اليهود داخل الأقطار العربية بوجه عام, ومصر بوجه خاص, حيث كانوا جزءا من نسيج المجتمع الذي يؤمن بالمساواة بين طوائفه, تحت شعار: (الدين لله والوطن للجميع), وثالثتها الحديث عن (الأمل) الذي سرعان ما تحطم على صخرة الأطماع الصهيونية التي زرعت إسرائيل داخل الأمة العربية. ويبدو أن فهيم قنديل حذف من كلمة الحاخام, لأسباب التركيز على الاحتفال بشوقي, واستبقى منها ما هو خاص بشوقي تحية له. وذلك مسلك يدفعنا إلى أن نفهم تجاهله التام بالطبع لأمثال عباس العقاد وإبراهيم المازني وعبدالرحمن شكري وميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران وطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهم من أبناء المدرسة الجديدة الذين أنزلهم فهيم منزلة الخصوم الذين يحسن السكوت عنهم, وعدم الإشارة إليهم, خصوصا في مقام احتفال (عكاظ) بأحمد شوقي أميرا للشعر.

No comments: